فصل: الآية رقم ‏(‏36‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 الآية رقم ‏(‏36‏)‏

‏{‏ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا ‏}‏

يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لمعاذ بن جبل‏:‏ ‏(‏أتدري ما حق اللّه على العباد‏؟‏‏)‏ قال اللّه ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏(‏أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏أتدري ما حق العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك‏؟‏ أن لا يعذبهم‏)‏ ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين، فإن اللّه سبحانه جعلهما سبباً لخروجك من العدم إلى الوجود، وكثيرا ما يقرن اللّه سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين، كقوله‏:‏ ‏{‏أن اشكر لي ولوالديك‏}‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا‏}‏، ثم عطف على الإحسان إليهما بالإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة‏)‏ ‏"‏أخرجه النسائي حديث سلمان بن عامر‏"‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏واليتامى‏}‏ وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم، فأمر اللّه بالإحسان إليهم والحنو عليهم، ثم قال‏:‏ ‏{‏والمساكين‏}‏ وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفايتهم، فأمر اللّه سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم، وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة، وقوله‏:‏ ‏{‏والجار ذي القربى والجار الجنب‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏{‏والجار ذي القربى‏}‏ يعني الذي بينك وبينه قرابة ‏{‏والجار الجنب‏}‏ الذي ليس بينك وبينه قرابة، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد، وقال نوف البكالي في قوله‏:‏ ‏{‏والجار ذي القربى‏}‏ يعني الجار المسلم ‏{‏والجار الجنب‏}‏ يعني اليهودي والنصراني ‏"‏رواه ابن جرير وابن أبي حاتم‏"‏وقال مجاهد أيضاً في قوله ‏{‏والجار الجنب‏}‏ يعني ‏:‏ الرفيق في السفر، وقد وردت  الأحاديث بالوصايا بالجار فلنذكر منها ما تيسر وباللّه المستعان‏.‏

 الحديث الأول قال الإمام أحمد عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه‏)‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

 الحدث الثاني ‏:‏ عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خير الأصحاب عند اللّه خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند اللّه خيرهم لجاره‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والترمذي‏"‏

 الحدث الثالث‏"‏‏:‏ قال الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏(‏ما تقولون في الزنا‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ حرام حرمه اللّه ورسوله وهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره‏)‏، قال‏:‏ ‏(‏ما تقولون في السرقة‏)‏‏؟‏ قالو‏:‏ حرمها اللّه ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة، قال‏:‏ ‏(‏لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره‏)‏ ‏"‏تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين‏"‏

 الحديث الرابع ‏:‏ قال أبو بكر البزار عن جابر بن عبد اللّه قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الجيران ثلاثة، جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقاً‏.‏ جار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقاً، فأما الجار الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام، وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار، وحق الإسلام، وحق الرحم‏)‏

 الحديث الخامس ‏:‏ روى الإمام أحمد عن عائشة‏:‏ أنها سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ إن لي جارين فإلى أيهما أهدي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إلى أقربهما منك بابا‏(‏ ورواه البخاري من حديث شعبة به‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصاحب بالجنب‏}‏ عن علي وابن مسعود قالا‏:‏ هي المرأة، وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ هو الرفيق في السفر، وقال سعيد بن جبير‏:‏ هو الرفيق الصالح، وقال زيد بن أسلم‏:‏ هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر، وأما ابن السبيل فعن ابن عباس وجماعة هو الضيف، وقال مجاهد والضحاك ومقاتل‏:‏ هو الذي يمر عليك مجتازاً في السفر، وهذا أظهر وإن كان مراد القائل بالضيف المار في الطريق فهما سواء وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة وباللّه الثقة وعليه التكلان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ملكت أيمانكم‏}‏ وصية بالأرقاء لأن الرقيق ضعيف الحيلة، أسير في أيدي الناس، فلهذا ثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول‏:‏ ‏(‏الصلاة الصلاة وما ملكت ايمانكم‏)‏ فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه، وقال الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زووجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة‏)‏ ورواه النسائي وإسناده صحيح‏.‏

وعن عبد اللّه بن عمرو أنه قال لقهرمان له‏:‏ هل أعطيت الرقيق قوتهم‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فانطلق فأعطهم فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم‏)‏ ‏"‏رواهما مسلم‏"‏وعن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق‏)‏ ‏"‏رواهما مسلم‏"‏وعنه أيضاً عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي حره وعلاجه‏)‏ أخرجاه، ولفظه للبخاري ولمسلم‏:‏ ‏(‏فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوها قليلا، فليضع في يده أكلة أو أكلتين‏)‏ وعن أبي ذر رضي اللّه عنه، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏هم إخوانكم خولكم جعلهم اللّه تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم‏(‏ أخرجاه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يحب من كان مختالاً فخوراً‏}‏ أي مختالاً في نفسه، بمعجباً متكبراً فخوراً على الناس يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند اللّه حقير، وعند الناس بغيض، قال مجاهد في قوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يحب من كان مختالاً‏}‏ يعني متكبراً، ‏{‏فخوراً‏}‏ يعني‏:‏ بعدما أعطى وهو لا يشكر اللّه تعالى، يعني‏:‏ يفخر على الناس بما أعطاه اللّه من نعمه، وهو قليل الشكر للّه على ذلك، وقال ابن جرير عن أبي رجاء الهروي‏:‏ لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً، وتلا‏:‏ ‏{‏وما ملكت أيمانكم‏}‏ الآية، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً، وتلا‏:‏ ‏{‏وبرا بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً‏}‏ وقال مطرف‏:‏ كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته، فقلت‏:‏ يا ابا ذر بلغني أنك تزعم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏ إن اللّه يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة، قال‏:‏ أجل، قلت‏:‏ من الثلاثة الذين يبغض الله‏؟‏ قال‏:‏ المختال الفخور أوليس تجدونه عندكم في كتاب اللّه المنزل، ثم قرأ الآية‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يحب من كان مختالاً فخوراً‏}‏ قلت‏:‏ يا رسول اللّه أوصني قال‏:‏ ‏)‏إياك وإسبال الإزار‏.‏ فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن اللّه لا يحب المخيلة‏)‏

 

الآية رقم ‏(‏37 ‏:‏ 39‏)

‏{‏ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ‏.‏ والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا ‏.‏ وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما ‏}‏

يقول تعالى ذاماً الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم اللّه به من بر الوالدين، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء، ولا يدفعون حق اللّه فيها ويأمرون الناس بالبخل أيضاً، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويكتمون ما آتاهم اللّه من فضله‏}‏ فالبخيل جحودُ لنعمة اللّه ولا تظهر عليه، ولا تبين لا في مأكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله، كما قال تعالى‏:‏

{‏إن الإنسان لربه لكنود* وإنه على ذلك لشهيد‏}‏ أي بحاله وشمائله، ‏{‏وإنه لحب الخير لشديد‏}‏ وقال ههنا‏:‏ ‏{‏ويكتمون ما آتاهم اللّه من فضله‏}‏، ولهذا توعدهم بقوله‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ والكفر هو الستر والتغطية، فالبخيل يستر نعمة اللّه عليه، ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة اللّه عليه، وفي الحديث‏:‏ إن اللّه إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه‏)‏، وفي الدعاء النبوي‏:‏ ‏(‏واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها - وأتممها علينا‏)‏ وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم وكتمانهم ذلك، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً‏}‏ ولا شكر أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى، فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء كذلك الآية التي بعدها، وهي قوله‏:‏ ‏{‏الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس‏}‏ فإنه ذكر الممسكين المذمومني وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه اللّه‏.‏ وفي حديث‏:‏ ‏(‏الثلاة الذين هم أول من تسجر بهم النار، وهم‏:‏ العالم والغازي والمنفق والمراؤون بأعمالهم يقول صاحب المال ما تركت من شي تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول اللّه‏:‏ كذبت إنما أردت أن يقال جواد فقد قيل‏:‏ أي أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي اردت بفعلك، وفي الحديث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعدي بن حاتم‏:‏‏(‏إن أباك أراد أمراً فبلغه‏)‏ وفي حديث آخر أن رسول الّله صلى اللّه عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جدعان هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ لا، إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين‏)‏، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر‏}‏ الآية‏.‏ أي إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح، وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان، فإنه سوّل لهم وأملى لهم، وقارنهم فحسن لهم القبائح، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً‏}‏، ولهذا قال الشاعر‏:‏

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم اللّه‏}‏ الآية، أي واي شيء يضرهم لو آمنوا باللّه وسلكوا الطريق الحميدة، وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان باللّه، رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله، وأنفقوا مما رزقهم اللّه في الوجوه التي يحبها اللّه ويرضاها‏؟‏‏!‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وكان اللّه بهم عليماً‏}‏ أي وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده، ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي، الذي من طرد عن بابه فقد خاب، وخسر في الدنيا والآخرة عياذاً باللّه من ذلك‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏40 ‏:‏42‏)

{‏ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ‏.‏ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ‏.‏ يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا ‏}

يخبر جلَّ ثناؤه عباده بأنه سيوفيهم أجورهم، ولا يظلم خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل، ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ونضع الموازين القسط‏}‏ الآية، وقال تعالى مخبراً عن لقمان‏:‏ أنه قال‏:‏ ‏{‏يا بنيّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها اللّه‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره‏}‏ وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل، وفيه‏:‏ ‏(‏يقول اللّه عزَّ وجلَّ ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار‏)‏؛ وفي لفظ‏:‏ أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار، ‏(‏فيخرجون خلقاً كثيراً‏)‏، ثم يقول أبو سعيد‏:‏ اقرأوا إن شئتم ‏{‏إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة‏}‏ الآية وقال ابن أبي حاتم، قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ يؤتى بالعبد أو الامة يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأولين الآخرين‏:‏ هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه، فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أمها أو أخيها أو زوجها، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون‏}‏ فيغفر اللّه من حقه ما يشاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً، فينصب للناس، فيقول ائتوا إلى الناس حقوقهم، فيقول‏:‏ يا رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم‏؟‏ فيقول‏:‏ خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر مظلمته، فإن كان ولياً للّه ففضل له مثقال ذرة ضاعفها اللّه له حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ علينا‏:‏ ‏{‏إن اللّه لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها‏}‏، وإن كان عبداً شقياً‏.‏ قال الملك‏:‏ رب فنيت حسناته وبقي طالبون كثير، فيقول‏:‏ خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صكوا له صكاً إلى النار ورواه ابن جرير ولبعض هذا الاثر شاهد في الحديث الصحيح‏.‏ وروي عن سعيد بن جبير في قوله‏:‏ ‏{‏وإن تك حسنة يضاعفها‏}‏ فأما المشرك فيخفف عنه الذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبداً، وقد يستدل له بالحديث الصحيح‏:‏ أن العباس قال يا رسول اللّه‏:‏ إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء‏؟‏ قال‏:‏ نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار، وقد يكون هذا خاصاً بأبي طالب من دون الكفار، بدليل ما رواه أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم من حديث أنَس‏"‏وقال الحن وقتادة‏:‏ ‏{‏ويؤت من لدنه أجراً عظيماً‏}‏ يعني الجنة، نسال اللّه رضاه والجنة وروى ابن أبي حاتم عن أبي عثمان قال، قلت‏:‏ يا أبا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن اللّه يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة‏)‏، فقال أبو هريرة‏:‏ واللّه بل سمعت نبي اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن اللّه يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة‏)‏، ثم تلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل‏}‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏ يقول تعالى مخبراً عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة، حين يجيء من كل أمة بشهيد يعني الأنبياء عليهم السلام، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء‏}‏ الآية‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ روى البخاري عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اقرأ عليَّ‏)‏، فقلت‏:‏ يا رسول اللّه آقرا عليك وعليك أنزل‏؟‏ ‏(‏قال‏:‏ نعم، إني أحب أن أسمعه من غيري‏(‏ فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية‏:‏ ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً‏}‏‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏حسبك الآن‏)‏ فإذا عيناه تذرفان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏ أي لو انشقت وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ، كقوله‏:‏ ‏{‏يوم ينظر المرء ما قدمت يداه‏}‏ الآية‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏ إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئاً، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس، فقال له‏:‏ سمعت اللّه عزّ وجل يقول - يعني أخباراً عن المشركين يوم القيامة - إنهم قالوا‏:‏ ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏، وقال في الآية الأخرى ‏{‏ولا يكتمون اللّه حديثا‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ أما قوله ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏ فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام، قالوا‏:‏ تعالوا فلنجحد، فقالوا‏:‏ ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏ فختم اللّه على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم ‏{‏ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير‏"‏وقال عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس فقال‏:‏ أشياء تختلف عليَّ في القرآن، قال ما هو، أشك في القرآن‏؟‏ قال‏:‏ ليس هو بالشك، ولكن اختلاف قال‏:‏ فهات ما اختلف عليك من ذلك، قال أسمع اللّه يقول‏:‏ ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏ فقد كتموا، فقال ابن عباس‏:‏ أما قوله ‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏، فإنهم لما رأووا يوم القيامة أن اللّه لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا يغفر شركاً، جحد المشركون فقالوا‏:‏ ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏ رجاء أن يغفر لهم، فختم اللّه على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون، فعند ذلك ‏{‏يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تُسوَّى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏

وقال الضحاك‏:‏ إن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال‏:‏ يا ابن عباس قول اللّه تعالى ‏{‏يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏ فقال له ابن عباس‏:‏ إني أحسبك قمت من عند أصحابك، فقلت ألقي على ابن عباس متشابه القرآن فإذا رجعت إليهم فأخبرهم‏:‏ أن اللّه تعالى يجمع الناس يوم القياة في بقيع واحد، فيقول المشركون‏:‏ إن اللّه لا يقبل من أحد شيئاً إلا ممن وحَّده، فيقولون تعالوا نجحد، فيسالهم فيقولون‏:‏ ‏{‏واللّه ربنا ما كنا مشركين‏}‏، فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت لهم ‏{‏ولا يكتمون اللّه حديثاً‏}‏ ‏"‏أخرجه ابن جرير عن الضحاك‏"‏‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏43‏)‏

{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا ‏}

ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول، وعن قربان محالها - التي هي المساجد - للجنب إلا أن يكون مجتازاً من باب إلى باب من غير مكث؛ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسالونك عن الخمر والميسر‏}‏ الآية، فإن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تلاها على عمر فقال‏:‏ ‏(‏اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً‏)‏، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه، فقال‏:‏ ‏(‏اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً‏)‏، فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات، حتى نزلت‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر واليمسر والأنصاب والأزلام رجلس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون‏}‏، إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل أنت منتهون‏}‏‏؟‏ فقال عمر‏:‏ انتهينا انتهينا وفي رواية عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر، فذكر الحديث وفيه‏:‏ فنزلت الآية التي في النساء‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ فكان منادي رسول اللّه إذا قامت الصلاة ينادي‏:‏ أن لا يقربن الصلاة سكران‏.‏

سبب آخر ‏:‏ عن علي بن ابي طالب قال‏:‏ صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا، وحضرت فقدموا فلاناً قال فقرأ‏:‏ قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم والترمذي‏"‏وقال العوفي عن ابن عباس في الآية‏:‏ إن رجالاً كانوا يأتون وهم سكارى قبل أن يحرم الخمر، فقال اللّه‏:‏ ‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ الآية، رواه ابن جرير، وعن قتادة‏:‏ كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات، ثم نسخ بتحريم الخمر، وقال الضحاك‏:‏ لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم‏.‏ ثم قال ابن جرير‏:‏ والصواب أن المراد سكر الشراب، قال‏:‏ ولم يتوجه النهي إلى السكران الذي لا يفهم الخطاب لأن ذاك في حكم المجنون، وإنما خوطب بالنهي الثَّملُ الذي يفهم التكليف، وهذا حاصل ما قاله‏.‏ وقد ذكره غير واحد من الأصوليين، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكالم دون السكران الذي لا يدري ما يقال له، فإن الفهم شرط التكليف، وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنيه عن السكر بالكلية لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائماً واللّه أعلم‏.‏ وعلى هذا فيكون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا ايها الذين آمنوا اتقوا اللّه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏ وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ هذا أحسن ما يقال في حد السكران أنه الذي لا يدري ما يقول، فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها، وقد قال الإمام أحمد عن أنَس قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إذا نعس أحدكم وهو يصلي فينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول‏)‏ ‏"‏انفرد بإخراجه البخاري‏"‏وفي بعض ألفاظ الحديث‏:‏ ‏)‏فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه‏)‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا جنبا ً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا‏}‏ عن ابن عباس قال‏:‏ لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل، قال تمر به مراً ولا تجلس، يروى أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيردون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولا جنباً إلا عابري سبيل‏}‏، ويشهد لصحته ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر‏)‏، وهذا قاله في آخر حياته صلى اللّه عليه وسلم علماً منه أن أبا بكر رضي اللّه عنه سيلي الأمر بعده، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيراً للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه رضي اللّه عنه، ومن روى إلا باب علي كما وقع في بعض السنن فهو خطأ، والصواب ما ثبت في الصحيح‏.‏ ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد، ويجوز له المرور، وكذا الحائض والنفساء أيضاً في معناه، إلا أن بعضهم قال‏:‏ يحرم مرورهما لاحتمال التلويث، ومنهم من قال‏:‏ إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور وإلا فلا، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها قالت، قال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ناوليني الخُمرة من المسجد‏)‏، فقلت‏:‏ إني حائض، فقال‏:‏ ‏(‏إن حيضتك ليست في يدك‏)‏ وفيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد والنفساء في معناها واللّه أعلم‏.‏ وروى أبو داود عن عائشة قالت، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب‏)‏، قال أبو مسلم الخطابي‏:‏ ضعف هذا الحديث جماعة، لكن رواه ابن ماجة عن أم سلمة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي من حديث سالم بن أبي حفصة عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك‏)‏ فإنه حديث ضعيف لا يثبت، فإن سالماً هذا متروك وشيخه عطية ضعيف واللّه أعلم‏.‏

وعن علي‏:‏ ‏{‏ولا جنباً إلا عابر سبيل‏}‏ قال‏:‏ لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء، ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي ذر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الصعيد الطيب طهور المسلم، وإن لم تجد الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير لك‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي ذر‏"‏ثم قال ابن جرير بعد حكايته القولين‏:‏ والأولى قول من قال ‏{‏ولا جنباً إلا عابري سبيل‏}‏ أي إلا عابري طريق فيه، وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر‏}‏ إلى آخره، فكان معلوماً بذلك أن قوله‏:‏ ‏{‏ولا جنباً إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا‏}‏ لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏وإن كنتم مرضى أو على سفر‏}‏ معنى مفهوم، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية‏:‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضاً جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل‏.‏ قال‏:‏ والعابر السبيل المجتاز مراً وقطعاً، يقال منه‏:‏ عبرت بهذا الطريق فأنا أعبره عبراً وعبوراً، ومنه يقال‏:‏ عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار‏:‏ هي عبر الأسفار لقوتها على قطع الأسفار، وهذا الذي نصره هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقص مقصودها، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضاً‏.‏ والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى تغتسلوا‏}‏ دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء، أو لم يقدر على استعماله بطريقة، وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد، لما روي بسند صحيح أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك‏.‏ قال سعيد بن منصور في سننه عن عطاء بن يسار قال‏:‏ رأيت رجالاً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن، كنتم مرضى على على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً‏}‏ أما المرض المبيح للتيمم فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو أو شينة أو تطويل البرء، ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية، قال مجاهد‏:‏ نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم فيناوله، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكر ذلك له، فأنزل اللّه هذه الآية والسفر معروف ولا فرق فيه بين الطويل والقصير، وقوله‏:‏ ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏ الغائط هو المكان المطمئن من الأرض، كني بذلك عن التغوط وهو الحدث الأصغر‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ فقرئ لمستم ولامستم، واختلف المفسرون الأئمة في معنى ذلك على قولين‏:‏ أحدهما أن ذلك كناية عن الجماع لقوله‏:‏ ‏{‏وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن‏}‏ قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ قال‏:‏ الجماع‏.‏ وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير قال‏:‏ ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي‏:‏ ليس بالجماع، وقال ناس من العرب اللمس‏:‏ الجماع، قال‏:‏ فلقيت ابن عباس فقلت له‏:‏ إن ناساً من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي‏:‏ ليس بالجماع، وقالت العرب‏:‏ الجماع قال‏:‏ فمن أي الفريقين كنت‏؟‏ قلت‏:‏ كنت من الموالي، قال غلب فريق الموالي، إن اللمس والمس والمباشرة‏:‏ الجماع ولكن اللّه يكنى ما شاء بما شاء وقد صح من غير وجه عن عبد اللّه بن عباس أنه قال ذلك، وقال آخرون‏:‏ عنى اللّه تعالى بذلك كل من لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئاً من جسدها مفضياً إليه‏.‏ عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ القبلة من المس وفيها الوضوء، وروى الطبراني عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ يتوضأ الرجل من المباشرة، ومن اللمس بيده، ومن القبلة، وكان يقول في هذه الآية‏:‏ ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ هو الغمز، وروى مالك عن عبد اللّه بن عمر عن أبيه أنه كان يقول‏:‏ قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة، فمن قبَّل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء، وروى الحافظ أبو الحسن الدارقطني في سننه عن عمر بن الخطاب نحو ذلك، ولكن روينا عنه من وجه آخر أنه كان يقبل امرأته ثم يصلي ولا يتوضأ، فالرواية عنه مختلفة، فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب واللّه أعلم‏.‏ والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل، قال ناصروه‏:‏ قد قرىء في هذه الآية لامستم ولمستم، واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بايديهم‏}‏ أي جسوه، وقال صلى اللّه عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنا يعرّض له بالرجوع عن الإقرار‏:‏ ‏(‏لعلك قبلت أو لمست‏)‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏واليد زناها اللمس‏)‏ وقالت عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ قلّ يوم إلا ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يطوف علينا فيقبل ويلمس، ومنه ما ثبت في الصحيحين‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة هو يرجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين، قالوا‏:‏ ويطلق في اللغة على الجس باليد، كما يطلق على الجماع، قال الشاعر‏:‏

‏(‏ولمست كفي كفه أطلب الغنى‏)‏

وقال ابن جرير وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال‏:‏ عنى اللّه بقوله ‏{‏أو لامستم النساء‏}‏ الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قبَّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلي ولا يتوضأ، وحدَّث عروة عن عائشة‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبَّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلت‏:‏ من هي إلا أنت‏؟‏ فضحكت ‏"‏رواه أبو داود والترمذي وابن اجة‏"‏وعن أم سلمة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءاً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً‏}‏ استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم لحديث عمران بن حصين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ مع القوم، فقال‏:‏ ‏(‏يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم، ألست برجل مسلم‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ بلى يا رسول اللّه ولكن أصابتني جنابة ولا ماء، قال‏:‏ ‏(‏عليك بالصعيد فإنه يكفيك‏)‏ ‏"‏رواه الإمام أحمد من حديث عمران بن حصين‏"‏ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً‏}‏ فالتيمم في اللغة‏:‏ هو القصد‏.‏ تقول العرب‏:‏ تيممك اللّه بحفظه أي قصدك، ومنه قول امرىء القيس شعراً‏:‏

ولما رأت أن المنية وردها * وأن الحصى من تحت أقدامها دامي

تيممت العين التي عند ضارج * يفيء عليها الفيء عرمضها طامي

والصعيد قيل‏:‏ هو كل ما صعد على وجه الارض، فيدخل الأرض، فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والنبات وهو قول مالك، وقيل‏:‏ ما كان من جنس التراب كالرمل والزرنيخ والنورة وهذا مذهب أبي حنيفة، وقيل‏:‏ هو التراب فقط، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتصبح صعيداً زلقاً‏}‏ أي تراباً أملس طيباً، وبما ثبت في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏)‏فضلنا على الناس بثلاث‏:‏ جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء‏(‏ وفي لفظ‏:‏ ‏(‏وجعل ترابها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء‏)‏ قالوا فخصص الطهورية بالتراب في مقام الإمتنانن فلو كان غيره يقوم مقام لذكره معه، والطيب ههنا‏:‏ قيل الحلال، وقيل الذي ليس بنجس‏.‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم‏}‏ التيمم بدل عن الوضوء في التطهير به، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع، ولكن اختلف الأئمة في  كيفية التيمم على أقوال‏:‏  أحدها - وهو مذهب الشافعي في الجديد - أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين، لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقها على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين كما في آية الوضوء، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة‏:‏ ‏{‏فاقطعوا أيديهما‏}‏، قالو‏:‏ وحمل ما أطلق ههنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية، وذكر بعضهم ما رواه الدار قطني عن ابن عمر قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏التيمم ضربتان، ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين‏)‏ ‏"‏أخرجه الإمام أحمد والدارقطني عن ابن عمر‏"‏و القول الثاني‏:‏ أنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين، وهو قول الشافعي في القديم، و الثالث أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة لما روي أن رجلاً أتى عمر فقال‏:‏ إني أجنبت فلم أجد ماء؛ فقال عمر‏:‏ لا تصل‏.‏ قال عمار‏:‏ أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت، فلما أتينا النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال‏:‏ ‏(‏إنما كان يكفيك وضرب النبي صلى اللّه عليه وسلم بيده الأرض ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه‏)‏ ‏"‏رواه النسائي وأحمد‏"‏‏؟‏ طريق أخرى ‏:‏ قال أحمد عن سليمان الأعمش، حدثنا شقيق قال‏:‏ كنت قاعداً مع عبد اللّه و أبي موسى فقال أبو يعلى لعبد اللّه‏:‏ لو أن رجلاً لم يجد الماء، لم يصلّ‏؟‏ فقال عبد اللّه أنت تذكر ما قال عمرا لعمر‏؟‏ ألا تذكر إذ بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وإياك في إبل فأصابتني جنابة فتمرغت في التراب، فلما رجعت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخبرته، فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال‏:‏ ‏(‏إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، وضرب بكفيه إلى الأرض، ثم مسح كفيه جميعاً، ومسح واحدة بضربة واحدة‏)‏‏؟‏ فقال عبد اللّه‏:‏ لا جرم ما رأيت عمر قنع بذلك، قال، فقال له أبو موسى‏:‏ فيكف بهذه الآية في سورة النساء‏:‏ ‏{‏فلم تجدوا ماء فيتمموا صعيداً طيباً‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ فما درى عبد اللّه ما يقول‏.‏ وقال‏:‏ لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم‏.‏ وقال في المائدة‏:‏ ‏{‏فامسحو بوجوهكم وأيديكم منه‏}‏، فقد استدل بذلك الشافعي على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج‏}‏ أي في الدين الذي شرعه لكم ‏{‏ولكن يريد ليطهركم‏}‏ فلهذا أباح التيمم‏.‏ إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد، والتيمم نعمة عليكم لعلكم تشكرون، ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم دون سائر الأمم، كما ثبت في الصحيحن عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏(‏أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر؛ وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل‏)‏، وفي لفظ‏:‏ ‏(‏فعنده مسجده وطهوره، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان يبعث النبي إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة‏)‏ وقال تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ ‏{‏فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن اللّه كان عفواً غفوراً‏}‏ أي ومن عفوه عنكم وغفرانه ولكم أن شرع لكم التيمم، واباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء، توسعة عليكم ورخصة لكم، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحوا المكلف ويعقل ما يقول، أو جنابة حتى يغتسل، أو حدث حتى يتوضأ إلا أن يكون مريضاً أو عادماً للماء، فإن اللّه عزّ وجلَّ قد أرخص في التيمم - والحالة هذه - رحمة بعباده ورأفة بهم، وتوسعة عليهم، وللّه الحمد والمنة‏.‏

ذكر  سبب نزول مشروعية التيمم

وإنما ذكرنا ذلك ههنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر، والخمر إنما حرم بعد أُحُد بيسير، في محاصرة النبي صلى اللّه عليه وسلم لبني النضير، وأما المائدة فإنها من آخر مانزل ولا سيما صدرها، فناسب أن يذكر السبب هنا وباللّه الثقة‏.‏ قال البخاري عن عائشة قالت‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى ابي بكر فقالوا‏:‏ ألا ترى ما صنعت عائشة‏؟‏ أقامت برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال‏:‏ حبستِ رسول الله صلى اللّه عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء‏!‏‏!‏ قالت عائشة‏:‏ فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء اللّه أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على فخذي، فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على غير ماء حين اصبح، فأنزل اللّه آية التيمم فتيموا، فقال أسيد بن الحضير‏:‏ ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت‏:‏ فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته‏.‏ حديث آخر ‏:‏ قال الإمام أحمد عن ابن عباس عن عمار بن ياسر‏:‏ أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرَّس بذات الجيش ومعه زوجته عائشة، فانقطع عقد لها من جزع ظفار، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء، فأنزل اللّه على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب، فقام المسلمون مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم ينفضوا من التراب شيئاً فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الآباط‏.‏

حديث آخر ‏:‏ قال الحافظ بن مردويه عن الأسلع بن شريك، قال‏:‏ كنت أرحِّل ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة، وأراد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الرحلة، فكرهت أن أرحل ناقة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأنا جنب، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها، ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء واغتسلت، ثم لحقت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، فقال‏:‏ ‏(‏يا أسلع مالي أرى رحلتك قد تغيرت‏)‏، قلت يا رسول اللّه‏:‏ ألم أرحلها، رحلها رجل من الأنصار، قال‏:‏ ‏(‏ولم‏؟‏ قالت‏:‏ أني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت به، فأنزل اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون‏}‏ إلى قوله ‏{‏إن اللّه كان عفواً غفورا‏}‏ وقد روي من وجه آخر عنه‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏44 ‏:‏46‏)

‏{‏ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل ‏.‏ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا ‏.‏ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ‏}‏

يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة، أنهم يشترون الضلالة بالهدى، ويعرضون عما أنزل اللّه على رسوله، ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ليشتروا به ثمناً قليلاً من حطام الدنيا ‏{‏ويريدون أن تضلوا السبيل‏}‏ أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع ‏{‏واللّه أعلم بأعدائكم‏}‏ أي‏:‏ هو أعلم بهم ويحذركم منهم، ‏{‏وكفى باللّه وليا وكفى باللّه نصيرا‏}‏ أي‏:‏ كفى به ولياً لمن لجأ إليه نصيراً لمن استنصره، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏من الذين هادوا‏}‏ من في هذا لبيان الجنس كقوله‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يحرفون الكلم عن مواضعه‏}‏ أي‏:‏ يتأولونه على غير تأويله، ويفسرونه بغير مراد اللّه عزَّ وجلَّ قصداً منهم وافتراء، ‏{‏ويقولون سمعنا‏}‏ أي‏:‏ سمعنا ما قلته يا محمد، ولا نطيعك فيه ‏.‏‏.‏‏.‏ هكذا فسره مجاهد وهو المراد، وهذا ابلغ في كفرهم وعنادهم، وأنهم يتولون عن كتاب اللّه بعدما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏واسمع غير مسمع‏}‏ أي‏:‏ اسمع ما نقول لا سمعت، رواه ابن عباس، وقال مجاهد والحسن‏:‏ واسمع غير مقبول منك، قال ابن جرير‏:‏ والأول أصح وهو كما قال، وهذا استهزاء منهم واستهتار، عليهم لعنة اللّه ‏{‏وراعنا ليَّا بألسنتهم وطعناً في الدين‏}‏ أي‏:‏ يوهمون أنهم يقولون راعنا سمعك بقولهم راعنا، وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولا انظرنا‏}‏، ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه‏:‏ ليَّا بألسنتهم وطعناً في الدين‏}‏ يعني‏:‏ بسبهم النبي صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم اللّه بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً‏}‏ أي‏:‏ قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم، وقد تقدم الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقليلاً ما يؤمنون‏}‏، والمقصود أنهم لا يؤمنون إيماناً نافعاً‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏47 ‏:‏ 48‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا ‏.‏ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ‏}

يأمر اللّه تعالى أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم من الكتاب العظيم، الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات، ومتهدداً لهم إن لم يفعلوا بقوله‏:‏ ‏{‏ومن قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها‏}‏ قال بعضهم‏:‏ معناه من قبل أن نطمس وجوهاً، فطمسها هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم، ويحتمل أن يكون المراد من قبل أن نطمس وجوهاً فلا نبقي لها سمعاً ولا بصراً ولا أنفاً، ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار، وقال ابن عباس‏:‏ طمسها أن تعمى ‏{‏فنردها على أدبارها‏}‏ يقول‏:‏ نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال، وهذا مثل ضربه اللّه لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم، وهذا كما قال بعضهم في قوله‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلا الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سداً‏}‏ الآية‏:‏ أي هذا مثل سوء ضربه اللّه لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى، قال مجاهد‏:‏ ‏{‏من قبل أن نطمس وجوهاً‏}‏ يقول عن صراط الحق ‏{‏فنردها على أدبارها‏}‏ أي في الضلال، قال السدي‏:‏ ‏{‏فنردها على أدبارها‏}‏ فنمنعها عن الحق، قال‏:‏ نرجعها كفاراً ونردهم قردة‏.‏ وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية‏.‏ قال ابن جرير عن عيسى بن المغيرة، قال‏:‏ تذاكرنا عند ابراهيم إسلام كعب، فقال‏:‏ أسلم كعب زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمر على المدينة فخرج إليه عمر، فقال‏:‏ يا كعب أسلم فقال‏:‏ ألستم تقولون في كتابكم‏:‏ ‏{‏مثل الذين حملوا التوراة - إلى أسفاراً‏}‏، وأنا قد حملت التوراة، قال‏:‏ فتركه عمر، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلاً من أهلها حزيناً، وهو يقول‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها‏}‏ الآية‏.‏ قال كعب‏:‏ يا رب أسلمت مخافة أن تصيبه هذه الآية، ثم رجع فأتى أهله في اليمن، ثم جاء بهم مسلمين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت‏}‏ يعني‏:‏ اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الإصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير، وقوله‏:‏ ‏{‏وكان أمر اللّه مفعولاً‏}‏ أي‏:‏ إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع، ثم أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك، أي من الذنوب، لم يشاء‏:‏ أي من عباده، وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر‏.‏

 الحديث الأول‏:‏ عن أنس بن مالك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الظلم ثلاثة، فظلم لا يغفره اللّه، وظلم يغفره اللّه، وظلم لا يترك اللّه منه شيئاً‏.‏ فأما الظلم الذي لا يغفره اللّه فالشرك، وقال‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏، وأما الظلم الذي يغفره اللّه فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدين لبعضهم من بعض‏)‏ ‏"‏رواه الشيخان‏"‏

 الحديث الثاني ‏:‏ عن أبي إدريس قال، سمعت معاوية يقول، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏كل ذنب عسى اللّه أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً‏)‏

 الحديث الثالث‏:‏ عن أبي ذر أن رسول صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏)‏ما من عبد قال لا إله إلا اللّه ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة‏.‏ قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏.‏ قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ وإن زنى وإن سرق - ثلاثا، ثم قال في الرابعة‏:‏ على رغم أنف أبي ذر‏)‏، قال فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول‏:‏ وإن رغم أنف أبي ذر، وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول‏:‏ وإن رغم أنف أبي ذر ‏"‏رواه الشيخان‏"‏وعن أبي ذر قال‏:‏ كنت أمشي مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أحد، فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر‏!‏ قلت‏:‏ لبيك يا رسول اللّه، قال‏:‏ ما أحب أن لي أحداً ذاك عندي ذهباً أمسي ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده، يعني لدين، إلا أن أقول به في عباد اللّه هكذا وهكذا فحثا عن يمينه وعن يساره وبين يديه، قال ثم مشينا فقال‏:‏ يا أبا ذر إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا ، فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره، قال‏:‏ ثم مشينا فقال‏:‏ يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك ، قال‏:‏ فانطلق حتى تورى عني، قال‏:‏ فسمعت لغطاً، فقلت‏:‏ لعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عرض له، قال‏:‏ فهممت أن أتبعه، قال‏:‏ فذكرت قوله لا تبرح حتى آتيك، فانتظرته حتى جاء، فذكرت له الذي سمعت، فقال‏:‏ ذاك جبريل أتاني، فقال‏:‏ من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة‏)‏ قلت‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏؟‏ قال‏:‏ وإن زنى وإن سرق‏)‏ ‏"‏رواه أحمد والشيخان‏"‏

 الحديث الرابع ‏:‏ عن جابر، قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول اللّه ما الموجبتان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏من مات لا يشرك باللّه شيئاً وجبت له الجنة ومن مات يشرك باللّه شيئاً وجبت له النار‏)‏

 الحديث الخامس ‏:‏ قال الإمام أحمد، عن ضمضم بن جوش اليمامي قال، قال لي أبو هريرة‏:‏ يا يمامي‏!‏ لا تقولن لرجل لا يغفر اللّه لك، أو لا يدخلك الجنة أبداً، فقلت‏:‏ يا أبا هريرة إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب، قال‏:‏ لا تقلها فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏كان في بني إسرائيل رجلان أحدهما مجتهد في العبادة، وكان الآخر مسرفاً على نفسه، وكانا متآخيين، وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على الذنب فيقول‏:‏ يا هذا أقصر، فيقول‏:‏ خلِّني وربي أبعثت عليّ رقيباً‏؟‏ إلى ان رآه يوماً على ذنب استعظمه، فقال له‏:‏ ويحك أقصر، قال‏:‏ خلِّني وربي، أبعثت عليَّ رقيباً‏؟‏ فقال‏:‏ واللّه لا يغفر اللّه لك ولا يدخلك الجنة أبداً، قال‏:‏ فبعث اللّه إليهما ملكاً فقبض أرواحهما واجتمعا عنده، فقال للمذنب‏:‏ اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر‏:‏ أكنت عالماً أكنت على ما في يدي قادراً‏؟‏ اذهبوا به إلى النار‏.‏ قال‏:‏ والذي نفس أبي القاسم بيده إنه لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته‏)

 الآية رقم ‏(‏49 ‏:‏52‏)‏

‏{‏ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا ‏.‏ انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا ‏.‏ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ‏.‏ أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ‏}‏

قال الحسن وقتادة نزلت هذه الآية - وهي قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ - في اليهود والنصارى حين قالوا‏:‏ نحن أبناء اللّه وأحباؤه، وفي قولهم ‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏، وقال مجاهد‏:‏ كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، وقال ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ وذلك أن اليهود قالوا‏:‏ إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ويشفعون لنا ويزكوننا، فأنزل اللّه على محمد‏:‏ ‏{‏أم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ الآية‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ قالوا ليس لنا ذنوب كما ليس لأبنائنا ذنوب، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏الم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ فيهم، وقيل‏:‏ نزلت في ذم التمادح والتزكية؛ وفي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال‏:‏ أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن نحثوا في وجوه المداحين التراب، وفي الصحيحين عن عبد اللّه بن ابي بكرة عن أبيه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سمع رجلاً يثني على رجل فقال‏:‏ ‏(‏ويحك قطعت عنق صاحبك ثم قال‏:‏ إن كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل أحسبه كذا ولا يزكي على اللّه أحداً‏)‏، وروى ابن مردويه عن عمر أنه قال‏:‏ إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر، ومن قال هو عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار، وقال الإمام أحمد عن معبد الجهني قال‏:‏ كان معاوية قلما كان يحدث عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ وكان قلما يكاد يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من يرد اللّه به خيراً يفقهه في الدين، وإن هذا المال حلو خضر، فمن يأخذه بحقه يبارك فيه، وإياكم والتمادح فإنه الذبح‏)‏ وقال ابن جرير قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ إن الرجل ليغدوا بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء يلقى الرجل ليس يملك له ضرا ولا نفعا فيقول له إنك والله كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحظ من حاجته بشيء وقد أسخط الله ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ الآية ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏بل اللّه يزكي من يشاء‏}‏ أي المرجع في ذلك إلى اللّه عزَّ وجلَّ لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يظلمون فتيلاً‏}‏ أي ولا يترك لأحد من لأجر ما يوازن مقدار الفتيل، قال ابن عباس‏:‏ هو ما يكون في شق النواة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كيف يفترون على اللّه الكذب‏}‏ أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء اللّه وأحباؤه، وقولهم‏:‏ ‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى‏}‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏لن تمسنا النار إلا اياماً معدودات‏}‏، واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة، وقد حكم اللّه أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئاً في قوله‏:‏ ‏{‏تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم‏}‏ الآية، ثم قال‏:‏ ‏{‏وكفى به إثما مبيناً‏}‏ أي وكفى بصنيعهم هذا كذباً وافتراء ظاهراً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت‏}‏‏.‏ أما الجبت فقال عمر بن الخطاب‏:‏ الجبت السحر، و الطاغوت الشيطان، وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد‏.‏ وعن ابن عباس وأبي العالية‏:‏ الجبت الشيطان، وعنه‏:‏ الجبت الأصنام‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ الجبت كعب بن الأشرف‏.‏ وقال الجوهري في كتاب الصحاح‏:‏ الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏الطيرة والعيافة والطرق من الجبت‏)‏ وقد تقدم الكلام على الطاغوت في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً‏}‏ أي يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم، وقلة دينهم، وكفرهم بكتاب اللّه الذي بأيديهم، وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال‏:‏ جاء حيي بن اخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم‏:‏ أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا، وعن محمد، فقالوا‏:‏ ما أنتم وما محمد‏؟‏ فقالوا نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العاني، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار فنحن خير أم هو‏؟‏ فقالوا‏:‏ أنتم خير وأهدى سبيلاً، فأنزل اللّه ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً‏}‏ الآية‏.‏ وقال الإمام أحمد عن ابن عباس لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش‏:‏ ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة، وأهل السقاية، قال‏:‏ أنتم خير، قال‏:‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏إن شانئك هو الأبتر‏}‏ ونزل‏:‏ ‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب‏}‏ إلى قوله عزَّ وجلَّ ‏{‏وآتيناهم ملكاً عظيماً‏}‏، وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم، وقد أجابوهم وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق فكفى اللّه شرهم، ‏{‏ورد اللّه الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى اللّه المؤمنين القتال وكان اللّه قوياً عزيزاً‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏53 ‏:‏ 55‏)‏

‏{‏ أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ‏.‏ أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ‏.‏ فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ‏}‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أم لهم نصيب من الملك‏}‏ وهذا استفهام إنكاري أي ليس لهم نصيب من الملك، ثم وصفهم بالبخل فقال‏:‏ ‏{‏فإذا لا يؤتون الناس نقيرا‏}‏ أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحداً من الناس ولا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا ما يملأ النقير وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس والأكثرين، وهذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق‏}‏ أي خوف أن يذهب ما بأيديكم، مع أنه لا يتصور نفاده، وإنما هو من بخلكم وشحكم، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان قتوراً‏}‏ أي بخيلاً‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أم يحسدون الناس على ما آتاهم اللّه من فضله‏}‏ يعني بذلك حسدهم النبي صلى اللّه عليه وسلم على ما رزقه اللّه من النبوة العظيمة، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل، ‏{‏فقد آتينا آل إبراهم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً‏}‏ أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب، وحكموا فيهم بالسنن وهي الحكمة وجعلنا منهم الملوك، ومع هذا ‏{‏فمنهم من آمن به‏}‏ أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام ‏{‏ومنهم من صدَّ عنه‏}‏ أي كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه، وهو منهم ومن جنسهم أي من بني إسرائيل فقد اختلفوا عليهم فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل‏؟‏ وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏فمنهم من آمن به‏}‏ أي بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ‏{‏ومنهم من صدّ عنه‏}‏ فالكفرة منهم أشد تكذيباً لك، وأبعد عما جئتهم به من الهدى، والحق المبين ولهذا قال متوعداً لهم‏:‏ ‏{‏وكفى بجهنم سعيرا‏}‏ أي وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب اللّه ورسله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏56 ‏:‏57‏)‏

‏{‏ إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما ‏.‏ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا ‏}

يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله، فقال‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا بآياتنا‏}‏ الآية، أي ندخلهم ناراً دخولاً يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم فقال‏:‏ ‏{‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب‏}‏ قال الأعمش عن ابن عمر‏:‏ إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاً أمثال القراطيس، وعن الحسن قوله‏:‏ ‏{‏كلما نضجت جلودهم‏}‏ الآية قال‏:‏ تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة، ثم قيل لهم‏:‏ عودوا فعادوا، عن ابن عمر قال‏:‏ قرأ رجل عند عمر هذه الآية‏:‏ ‏{‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها‏}‏ فقال عمر‏:‏ أعدها عليَّ، فأعادها، فقال معاذ بن جبل‏:‏ عندي تفسيرها، تبدل في ساعة مائة مرة، فقال عمر‏:‏ هكذا سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏رواه ابن أبي حاتم‏"‏وقال الربيع بن أنس‏:‏ مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً، وسنّه سبعون ذراعاً، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها، وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا، قال الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام، وإن غلظ جلده سبعون ذراعاً، وإن ضرسه مثل أحد‏)

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً‏}‏، هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها، ومحالها وأرجائها حيث شاءوا وأين أرادوا، وهم خالدون فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولاً‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لهم فيها أزواج مطهرة‏}‏ أي من الحيض، والنفاس، والأذى، والأخلاق الرذيلة، والصفات الناقصة كما قال ابن عباس‏:‏ مطهرة من الاقذار والأذى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مطهرة من البول والحيض النخام والبزاق والمني والولد، وقال قتادة‏:‏ مطهرة من الأذى والمآثم، ولا حيض ولا كلف‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وندخلهم ظلاً ظليلاُ‏}‏ أي ظلاً عميقاً كثيراً غزيراً طيباً أنيقاً، عن أبي هريرة، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها - شجرة الخلد‏)‏ ‏"‏رواه ابن جرير وأخرجه الشيخان بنحوه‏"‏

 الآية رقم ‏(‏58‏)‏

{‏ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ‏}

يخبر اللّه تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخنمن خانك‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأصحاب السنن‏"‏وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان، من حقوق اللّه عزّ وجلَّ على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات النذور وغير ذلك، ما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض، كالودائع وغير ذلك مما يأتمون به من غير اطلاع بينة على ذلك فأمر اللّه عزَّ وجلَّ بأدائها، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء‏)‏، وقال ابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن مسعود قال‏:‏ إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة، يؤتى بالرجل يوم القيامة وإن كان قد قتل في سبيل اللّه فيقال‏:‏ أد أمانتك، فيقول‏:‏ فأنَّى أؤديها وقد ذهبت الدنيا‏؟‏ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقه فتنزل عن عاتقه فيهوي على أثرها أبد الآبدين ‏"‏أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفاً‏"‏قال أبو العالية‏:‏ الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه‏.‏ وروى ابن أبي حاتم عن مسروق قال، قال أُبيّ بن كعب ‏:‏ من الأمانات أن المرأة ائتمنت على فرجها، وقال الربيع بن أنس‏:‏ هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس‏.‏ وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة حاجب الكعبة المعظمة، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص‏.‏

و سبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه، وقال محمد بن إسحاق‏:‏ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء إلى البيت فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها، وفوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكن له الناس في المسجد فقال‏:‏‏(‏لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، أن كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدميَّ هاتين، الا سدانة البيت وسقاية الحاج‏)‏ وذكر بقيِّة الحديث في خطبة النبي صلى اللّه عليه وسلم يومئذ إلىأن قال‏:‏ ثم جلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال‏:‏ يا رسول اللّه اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى اللّه عليك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ أين عثمان بن طلحة ‏؟‏ فدعي له، فقال له‏:‏ ‏)‏هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم وفاء وبر‏)‏ قال ابن جرير‏:‏ نزلت في عثمان بن طلحة، قبض منه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مفتاح الكعبة فدخل في البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية ‏{‏إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏ الآية، فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح، وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية ‏{‏إن اللّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏ فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك‏.‏

وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك، وسواء كانت في ذلك أو لا فحكمها عام، ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية‏:‏ هي للبر والفاجر، أي هي أمر لكل أحد، وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل‏}‏ أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس، ولهذا قال زيد بن أسلم‏:‏ إن هذه الآية‏:‏ إنما نزلت في الأمراء يعني الحكام بين الناس، وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إن اللّه مع الحاكم ما لم يجر، فإذا جار وكله إلى نفسه‏)‏، وفي الأثر‏:‏ ‏(‏عدل يوم كعبادة أربعين سنة‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إن اللّه نعمَّا يعظكم به‏}‏ أي يأمركم به من أداء الأمانات، والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن اللّه كان سميعاً بصيراً‏}‏ سميعاً لأقوالكم، بصيراً بأفعالكم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏59‏)‏

‏{‏ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ‏}

قال البخاري عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏، قال نزلت‏:‏ في عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سرية، وقال الإمام أحمد عن علي قال‏:‏ بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء قال، فقال لهم‏:‏ أليس قد أمركم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن تطيعوني‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ فاجمعوا لي حطباً - ثم دعا بنار فأضرمها فيه، ثم قال‏:‏ عزمت عليكم لتدخلنها، قال، فقال لهم شاب منهم‏:‏ إنما فررتم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من النار، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها، قال‏:‏ فرجعوا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبروه، فقال لهم‏:‏ ‏(‏لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً، إنما الطاعة في المعروف‏)‏ وعن عبد اللّه بن عمر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود‏"‏وعن عبادة ابن الصامت قال‏:‏ بايعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال‏:‏ ‏(‏إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من اللّه برهان‏)‏ ‏"‏رواه البخاري ومسلم‏"‏وفي الحديث الآخر عن أنس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة‏)‏ رواه البخاري، وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه، قال‏:‏ ‏(‏أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدوع الأطراف‏)‏ رواه مسلم وروى ابن جرير عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏سيليكم ولاة بعدي فيليكم البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلّوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم‏)‏

وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون‏)‏ قالوا، يا رسول اللّه‏:‏ فما تأمرنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أوفوا ببيعة الأول فالاول، وأعطوهم حقهم، فإن اللّه سائلهم عما استرعاهم‏)‏ أخرجاه، وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية‏}‏ أخرجاه، وعن ابن عمر أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من خلع يداً من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية‏)‏ رواه مسلم وروى مسلم أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال‏:‏ دخلت المسجد فإذا عبد اللّه بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون عليه، فأتيتهم فجلست إليه فقال‏:‏ كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جشره أصل الجشر‏:‏ الدواب ترعى في مكان وتبيت فيه اهـ إذا نادى منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلاة جامعة‏!‏ فاجتمعنا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء، وأمور ينكرونها، وتجيء فتن يُرَقِّقُ بعضها بعضاً، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن‏:‏ هذه مهلكتي، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن‏:‏ هذه هذه، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن باللّه واليوم الآخر، وليأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر، قال فدنوت منه فقلت‏:‏ أنشدك باللّه آنت‏؟‏‏؟‏ سمعت هذا من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيده وقال‏:‏ سمعته أذناي، ووعاه قلبي، فقلت له‏:‏ هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، ويقتل بعضاً بعضاً، واللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن اللّه كان بكم رحيماً‏}‏ قال فسكت ساعة ثم قال‏:‏ أطعه في طاعة اللّه، واعصه في معصية اللّه، والأحاديث في هذا كثيرة‏.‏

وقال ابن عباس ‏{‏وأولي الأمر منكم‏}‏ يعني أهل الفقه والدين، وكذا قال مجاهد وعطاء ‏{‏وأولي الأمر منكم‏}‏ يعني العلماء، والظاهر - والله أعلم - أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏}‏، وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من أطاعني فقد أطاع اللّه، ومن عصاني فقد عصا اللّه، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصا أميري فقد عصاني‏(‏، فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏أطيعوا اللّه‏}‏ أي اتبعوا كتابه، ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏ أي خذوا بسنته، ‏{‏وأولي الأمر منكم‏}‏ أي فيما أمروكم به من طاعة اللّه لا في معصية اللّه، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية اللّه كما تقدم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إنما الطاعة في المعروف‏)

وقال الإمام أحمد عن عمران بن حصين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، قال‏:‏‏(‏لا طاعة في معصية اللّه‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه والرسول‏}‏ قال مجاهد‏:‏ أي إلى كتاب اللّه وسنّة رسوله، وهذا أمر من اللّه عزَّ وجلَّ بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنّة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى اللّه‏}‏، فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال‏؟‏ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر‏}‏ أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب اللّه وسنَّة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم ‏{‏إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر‏}‏، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنّة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً باللّه ولا باليوم الآخر، وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك خير‏}‏ أي التحاكم إلى كتاب اللّه وسنّة رسوله، والرجوع إليهما في فصل النزاع خير ‏{‏وأحسن تأويلاً‏}‏، أي وأحسن عاقبة ومآلاً كما قاله السدي وقال مجاهد‏:‏ وأحسن جزاء، وهو قريب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏60 ‏:‏ 63‏)‏

‏{‏ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ‏.‏ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ‏.‏ فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ‏.‏ أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ‏}‏

هذا إنكار من اللّه عزَّ وجلَّ على من يدعي الإيمان بما أنزل اللّه على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب اللّه وسنّة رسوله، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار، ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول‏:‏ بيني وبينك محمد، وذاك يقول بيني وبينك كعب بن الأشرف وقيل‏:‏ في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام، ارادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية، وقيل غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنّة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت‏}‏ إلى آخرها، وقوله‏:‏ ‏{‏ويصدون عنك صدوداً‏}‏ أي يعرضون عنك إعراضاً كالمستكبرين عن ذلك كما قال تعالى عن المشركين‏:‏ ‏{‏وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل اللّه قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا‏}‏‏.‏

ثم قال تعالى في ذم المنافقين‏:‏ ‏{‏فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم‏}‏ أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك‏؟‏ ‏{‏ثم جاؤك يحلفون باللّه إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً‏}‏ أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق أي المداراة والمصانعة لا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم‏}‏، عن ابن عباس قال‏:‏ كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المشركين فأنزل اللّه عزَّ وجلَّ ‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك - إلى قوله - إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً‏}‏ ‏"‏رواه الطبراني‏"‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك الذين يعلم اللّه ما في قلوبهم‏}‏ هذا الضرب من الناس هم المنافقون والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم‏}‏ أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم، ‏{‏وعظهم‏}‏ أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر، ‏{‏وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً‏}‏ أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم